سورة الكهف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} تقدم في البقرة هذا مستوفى. قال أبو جعفر النحاس: وفى هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى. {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ففي هذا قولان: أحدهما- وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه، كما تقول: أطعمته عن جوع. والقول الآخر- وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي} وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ يا بنى آدم وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء، فهو اسم جنس {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلا عن الله. واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه، فقال الشعبي: سألني رجل فقال هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ} فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم.
وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات، فهذا أصل ذريته.
وقيل: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفى اليسرى فرجا، فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بنى آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بنى آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الامر فيه على نقل صحيح. قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الامام أبى بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبى محمد عبد الغنى بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبى عثمان عن سلمان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ». وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله اعلم. قال ابن عطية: وقول: {وَذُرِّيَّتَهُ} ظاهر اللفظ يقتضى الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل. وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال: ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم: زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق. وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب. والأعور صاحب أبواب الزنى. ومسوط صاحب الاخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا. وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الأعمش: وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد: والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء. وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام. والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها. والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها. ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى. والهفاف يكون بالصحاري يضل الناس ويتيههم. ومنهم الغيلان. وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان. قال وقال الداراني: إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية. قال ابن عطية: وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب. وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان. قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح، وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدرى ما اسمه يحدث.
وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته».
وفي مسند أحمد بن حنبل قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال: إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال: يوشك أن يتزوج. ويقول آخر: لم أزل بفلان حتى عق، قال: يوشك أن يبر. فال ويقول القائل: لم أزل بفلان حتى شرب، قال: أنت! قال ويقول: لم أزل بفلان حتى زنى، قال: أنت قال ويقول: لم أزل بفلان حتى قتل، قال: أنت أنت! وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجئ أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت». وقد تقدم وسمعت شيخنا الامام أبا محمد عبد المعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا.


{ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)}
قوله تعالى: {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته، أي لم أشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت.
وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السموات والأرض {وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني؟.
وقيل: الكناية في قوله: {ما أَشْهَدْتُهُمْ} ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين واهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من يتخوض في هذه الأشياء.
وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبد الله محمد بن معاذ المهدوي بالمهدية يقول: سمعت عبد الحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف. وذكر هذا بعض الأصوليين. قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته، وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن، حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي، إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين، وتندرج هذه الطوائف في معناهم. قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم {ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} رد على المنجمين أن قالوا: إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله: {وَالْأَرْضِ} رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا:
إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله: {وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر: {ما أشهدناهم} بالنون والألف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله: {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ} يعني ما استعنتهم على خلق السموات والأرض ولا شاورتهم. {وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} يعني الشياطين.
وقيل: الكفار. {عَضُداً} أي أعوانا يقال: اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت. والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون، لان اليد قوامها العضد. يقال: عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله تعالى: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي سنعينك بأخيك. ولفظ العضد على جهة المثل، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. وقرأ أبو جعفر الجحدري: {وَما كُنْتُ} بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا.
وفي عضد ثمانية أوجه: {عَضُداً} بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وهي أفصحها. و{عضدا} بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم. و{عضدا} بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن. و{عضدا} بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة. و{عضدا} بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك. و{عضدا} بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر. وحكى هارون القارئ {عضدا} واللغة الثامنة {عضدا} على لغة من قال: كتف وفخذ. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أي اذكروا يوم يقول الله: أين شركائي؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان. وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر {نقول} بنون. الباقون بالياء، لقوله: {شُرَكائِيَ} ولم يقل: شركاءنا. {فَدَعَوْهُمْ} أي فعلوا ذلك. {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا. {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً} قال أنس ابن مالك: هو واد في جهنم من قيح ودم.
وقال ابن عباس: أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا.
وقيل: بين الأوثان وعبدتها، نحو قوله: {فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ 10: 28}.
قال ابن الاعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى: {مَوْبِقاً} قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال: يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار.
وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال: {مَوْبِقاً} «واد من قيح ودم في جهنم».
وقال عطاء والضحاك: مهلكا في جهنم، ومنه يقال: أوبقته ذنوبه إيباقا.
وقال أبو عبيدة: موعدا للهلاك. الجوهري: وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً}. وفية لغة أخرى: وبق يوبق وبقا. وفية لغة ثالثة: وبق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه.
وقال زهير:
ومن يشتري حسن الثناء بماله *** يصن عرضه من كل شنعاء موبق
قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة. قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} {رَأَى} أصله رأي، قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها، ولهذا زعم الكوفيون أن {رَأَى} يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف. قال النحاس: سمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط كما أنه لا فرق، بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل. {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها} {فَظَنُّوا} هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ***
أي أيقنوا، وقد تقدم. قال ابن عباس: أيقنوا أنهم مواقعوها وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال.
وفي الخبر: «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة». والمواقعة ملابسة الشيء بشدة. وعن علقمة أنه قرأ: {فظنوا أنهم ملاقوها} أي مجتمعون فيها، واللفف الجمع. {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب.
وقال القتبي: معدلا ينصرفون إليه.
وقيل: ملجأ يلجئون إليه، والمعنى واحد.
وقيل: ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين.


{وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وقرأ وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يحتمل وجهين: أحدهما ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية.
الثاني ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في {سبحان}، فهو على الوجه الأول زجر، وعلى الثاني بيان. {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل: الآية في أبي بن خلف.
وقال الزجاج: أي الكافر أكثر شيء جدلا، والدليل على أنه أراد الكافر قوله: {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ}. وروي أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول الله له هذه صحيفتك ليس فيها شيء من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول ولا أقبلهم يا رب وكيف أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من ذا الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لاعضائه لعنكن الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يكتم حديثا فذلك قوله تعالى: {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}» أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا.
وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرقه وفاطمة ليلا فقال: «ألا تصلون» فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} قوله تعالى: {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى} أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} أي سنتنا في إهلاكهم أي ما منعهم عن الايمان إلا حكمي عليهم بذلك، ولو حكمت عليهم بالايمان آمنوا. وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال.
وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف. وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية. {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا} نصب على الحال، ومعناه عيانا، قاله ابن عباس.
وقال الكلبي: هو السيف يوم بدر.
وقال مقاتل: فجأة. وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي {قُبُلًا} بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله، جمع قبيل نحو سبيل وسبل. النحاس: ومذهب الفراء أن {قُبُلًا} جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا. ويجوز عنده أن يكون المعنى عيانا.
وقال الأعرج: وكانت قراءته {قُبُلًا} معناه جميعا.
وقال أبو عمرو: وكانت قراءته {قبلا} ومعناه عيانا. قوله تعالى: {وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ} أي بالجنة لمن آمن {وَمُنْذِرِينَ} أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم. {وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} قيل: نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم. ومعنى: {يدحضوا} يزيلوا ويبطلوا واصل الدحض الزلق. يقال: دحضت رجله أي زلقت، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت، وأدحضها الله. والإدحاض الإزلاق.
وفي وصف الصراط: «ويضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم» قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: {دحض مزلقة} أي تزلق فيه القدم. قال طرفة:
أبا منذر رمت الوفاء فهبته *** وحدت كما حاد البعير عن الدحض
{وَاتَّخَذُوا آياتِي} يعني القرآن. {وَما أُنْذِرُوا} من الوعيد {هُزُواً} و{ما} بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل: بمعنى الذي، أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا، وقد تقدم في البقرة بيانه.
وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين، وقالوا للرسول: {هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء: 3] {وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] و{ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} [المدثر: 31]. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها} أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها. {وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ} أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل: المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصل من العذاب، والمعنى متقارب. {إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وقرأ} بسبب كفرهم، أي نحن منعنا الايمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم. {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى} أي إلى الايمان، {فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم، وقد تقدم معنى هذه الآية في {سبحان} [الاسراء: 1] وغيرها. قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الايمان دون الكفرة بدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. {ذُو الرَّحْمَةِ} فيه أربع تأويلات: أحدها- ذو العفو.
الثاني- ذو الثواب، وهو على هذين الوجهين مختص بأهل الايمان دون الكفر. الثالث ذو النعمة. الرابع ذو الهدى، وهو على هذين الوجهين يعم أهل الايمان والكفر، لأنه ينعم في الدنيا على الكافر، كإنعامه على المؤمن. وقد أوضح هداه للكافر كما أوضحه للمؤمن وإن اهتدى به المؤمن دون الكافر. ومعنى قوله: {لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا} أي من الكفر والمعاصي. {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ} ولكنه يمهل. {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ} أي أجل مقدر يؤخرون إليه، نظيره: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67]، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} [الرعد: 38]
أي إذا حل لم يتأخر عنهم إما في الدنيا وإما في الآخرة. {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} أي ملجأ، قاله ابن عباس وابن زيد، وحكاه الجوهري في الصحاح. وقد وأل يئل وألا ووءولا على فعول أي لجأ، وواءل منه على فاعل أي طلب النجاة.
وقال مجاهد: محرزا. قتادة: وليا. وأبو عبيدة: منجى.
وقيل: محيصا، والمعنى واحد. والعرب تقول: لا وألت نفسه أي لا نجت، ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها *** للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى:
وقد أخالس رب البيت غفلته *** وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو. قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ} {تِلْكَ} في موضع رفع بالابتداء. {الْقُرى} نعت أو بدل. و{أَهْلَكْناهُمْ} في موضع الخبر محمول على المعنى، لان المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون {تِلْكَ} في موضع نصب على قول من قال: زيدا ضربته، أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا. {وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} أي وقتا معلوما لم تعده. و{مهلك} من أهلكوا. وقرأ عاصم: {مهلكهم} بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء {لمهلكهم} بكسر اللام وفتح الميم. النحاس: قال الكسائي وهو أحب إلي لأنه من هلك. الزجاج: مهلك اسم للزمان والتقدير: لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على مضربها.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16